في صباح خريفي يوم 24 أكتوبر عام 1929، اهتزت وول ستريت تحت وقع خطوات آلاف المستثمرين المذعورين، وشهدت انهيار الأسهم دون سابق إنذار، فيما عُرف لاحقًا بـ “الخميس الأسود”، والذي تبعه جلستان سوداوان في الأسبوع التالي.
كانت الأرض تميد تحت أقدام من اعتقدوا أن الازدهار أبدي، فالأسواق مستقرة تقريبًا منذ الأزمة المالية في 1907، وواصلت الصعود في أغلب الأوقات، لكن ما لم يدركوه أن في الظلام الدامس تُصنع أعظم الانتصارات، وكانت هذه أحلك فترات وول ستريت تاريخيًا.. كان هذا هو الكساد العظيم.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
وخلال أسابيع، تبخرت ثروات، انهارت البنوك، وفقد الملايين وظائفهم وحتى منازلهم، لكن وسط هذا الانهيار الشامل، كان هناك من يرون فرصًا، لا كوارث، من يغوصون في الركام بحثًا عن الكنوز التي غطاها الرماد.
زلزال أخرج كنزًا
– قبل الخوض في “كيف فعلوا ذلك؟” و”من أبرز الرابحين من الانهيار؟”، من الضروري هنا الإشارة إلى أن حجم الكارثة لم يضاهِه شيء من قبل ولا من بعد، حيث انكمش الاقتصاد الأمريكي على مدار 4 سنوات بنسبة 36%، وارتفع معدل البطالة إلى أكثر من 25% (15 مليون شخص في سن العمل).
– في سوق الأسهم، انخفض مؤشر “داو جونز” الصناعي بنسبة 11% في مستهل تعاملات الخميس، قبل أن تتدخل المؤسسات وجهات التمويل ليغلق على خسائر محدودة في تلك الليلة، ثم انتعش في الجلسة التالية، لكنه انخفض بنسبة 13% يوم الإثنين وبنسبة 12% يوم الثلاثاء.
– منذ بلغ السوق ذروته في 3 سبتمبر عام 1929 عند 381.17 نقطة، انخفض بنسبة 89% إلى 41.22 نقطة بحلول 8 يوليو عام 1932، ولم يعد إلى مستوى الذروة السابق قبل نوفمبر عام 1954.
– جاء ذلك أيضًا بعد فترة استثنائية من ازدهار السوق، حيث كان مؤشر “داو جونز” ارتفع بمقدار 6 أمثال من مستوى 63 نقطة في أغسطس 1921 إلى مستوى الذروة في سبتمبر عام 1929.
– في هذه المرحلة قال أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل “إيرفينغ فيشر” تصريحه الشهير، إن أسعار الأسهم وصلت إلى ما يشبه مستوى مرتفع دائم، ورغم أنه حذّر من احتمال وصول السوق إلى ذروته، استبعد حدوث انهيار حاد، معلقًا: “لا أعتقد أننا سنشهد تراجعًا بخمسين أو ستين نقطة عن المستويات الحالية، الآن أو لاحقًا”.
– خلال حقبة الانتعاش، انتشرت السيارات والهواتف وغيرها من التقنيات الجديدة، واستثمر العامة المزيد من مدخراتهم في الأسهم والسندات، بدعم من القروض الرخيصة، ما أدى إلى صعود الأسعار، لكن الاحتياطي الفيدرالي حذر من المضاربة، وفضل تقييد القروض بدلًا من رفع الفائدة، خلافًا لرؤية فرعه في نيويورك.
الانهيار الأسوأ والفرص الأعظم
– شكل الكساد العظيم أسوأ انهيار اقتصادي في التاريخ، لكنه للمفارقة، أتاح فرصًا غير مسبوقة لقلة مختارة من المستثمرين الاستراتيجيين، في الوقت الذي دُمرت فيه الأسواق وأفلس فيه نحو ثلث البنوك في الولايات المتحدة (نحو 9 آلاف مؤسسة).
– أدت خسائر سوق الأسهم إلى انخفاض إنفاق المستهلكين وانخفاض الطلب على السلع والخدمات، وتبعت الانهيار الاقتصادي حالات إفلاس واسعة النطاق، حيث خسر المستثمرون والمواطنون العاديون مبالغ طائلة.
– أدى انهيار البنوك إلى خسارة الكثيرين لمدخراتهم بالكامل (نحو 7 مليارات دولار من أموال المودعين)، وأدى الركود الزراعي، إلى جانب العوامل البيئية، إلى تدمير فرص العمل في المناطق الريفية.
– كما تسببت الحروب التجارية، بما في ذلك التعريفات الجمركية المعروفة باسم “هاولي-سموت” لعام 1930 والتي فرضت قيودًا على 20 ألف سلعة مستوردة، إلى مزيد من انكماش النشاط الاقتصادي.
النخبة الرابحة
– “جون روكفلر” والاستحواذ الاستراتيجي على الأصول: في حين أن التفاصيل الدقيقة حول استثمارات “روكفلر” في فترة الكساد الاقتصادي محدودة في المصادر المتاحة، تشير تقديرات إلى أنه خسر نصف ثروته في بداية الأزمة لكنها نمت بنحو 180% في السنوات القليلة التالية للانهيار.
– بينما اضطر معظم المستثمرين إلى تصفية حيازاتهم بأسعار مُنخفضة، فإن ثروة “روكفلر” الهائلة والسيولة المرتفعة قبل الكساد مكّنته من الاستحواذ على أصول استراتيجية بخصومات غير مسبوقة من قيمتها قبل الانهيار.
– يعرف نهج “روكفلر” بالاستثمار الانتهازي المُعاكس للدورة الاقتصادية، حيث وظّف رأس المال عندما لم يتمكن معظم المستثمرين من ذلك بسبب القيود المالية أو العوائق النفسية، ما مكنه من اقتناء أصول قيمة بأسعار بخسة ومضاعفة ثروته عدة مرات.
– “جوزيف كينيدي”.. توقع السوق وإعادة توزيع الأوزان: يمثل ربما أكثر دراسات الحالة نفعًا في مجال بناء الثروة خلال فترة الكساد العظيم، فقد نمت ثروته من 4.3 مليون دولار عند بداية الأزمة إلى 180 مليون دولار خلال سنوات قليلة، وهو ما يُمثّل نموًا بنسبة تتجاوز 4000%.
– ينبع نجاح “كينيدي” من بُعدين استراتيجيين بالغي الأهمية: أولاً، أظهر توقعًا استثنائيًا بخروجه من سوق الأسهم قبل انهياره مباشرة عام 1929، ما يعكس “انفصالًا تحليليًا ملحوظًا” عن التفاؤل السائد في السوق آنذاك.
– ثانيًا، نفّذ “كينيدي” عملية إعادة توزيع فعّالة للاستثمارات، بما في ذلك الخدمات المصرفية، وتداول الأسهم، وإنتاج الأفلام، ونمت أصوله العقارية الضخمة بشكل كبير. في النهاية، قُدرت ثروته بنحو 500 مليون دولار عند وفاته عام 1969.
– “جيه بول جيتي”: اتبع نهج “اشتر عندما يبيع الجميع، واحتفظ بالسهم حتى يشتريه الجميع”، واستفاد من حاجة الشركات للسيولة خلال الأزمة في الاستحواذ على أسهم النفط وعقارات مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، واصفًا الانهيار بأنه “فرصة العمر للاستحواذ على شركات النفط دون مقابل”. قفز أحد أسهمه بنسبة 840% بعد 5 سنوات من شرائه.
– “جيسي ليفرمور”.. معجزة ثراء: مع بداية الأزمة باع حيازاته من الأسهم مسجلًا خسائر تقارب نحو 250 ألف دولار، لكنه راهن بقوة على انهيار السوق عبر أداة البيع على المكشوف، وحقق مكسبًا قدره 100 مليون دولار (1.85 مليار دولار بقيمة الأموال اليوم) خلال أسبوع واحد فقط.
البقاء للأقوى
– خلال الكساد العظيم، لم يكن الانهيار موعدًا لهلاك الجميع، بل كان ميدانًا لتكوين ثروات ضخمة لمن تمتعوا بالرؤية والصبر، وأبرز عوامل النجاح تمثلت في الحفاظ على سيولة مرتفعة قبل الانهيار، ما منح المستثمرين أمثال “كينيدي” و”روكفلر” القدرة على شراء أصول عالية الجودة بأسعار منخفضة للغاية.
– كما أظهر هؤلاء “انفصالًا تحليليًا” عن عواطف السوق، وتبنوا عقلية معاكسة للتيار في مواجهة الخوف الجماعي، ونجحوا لأنهم امتلكوا المرونة النفسية، والتحمل الذهني، ومهارة التوقيت الاستراتيجي، وطبقوا أساليب مثل الخروج المبكر من الأسواق، والاستحواذ الانتهازي، وتنويع القطاعات.
– في لحظات الفوضى، كان الرهان على العقل لا الانفعال هو طريق النجاة، وكما أثبتت تلك الحقبة، فالبقاء ليس للأكثر تفاؤلًا، بل للأقوى الأكثر استعدادًا والأكثر هدوءًا تحت الضغط، وربما أيضًا الأكثر حظًا بامتلاكه الكاش.
المصادر: أرقام- موقع تاريخ الفيدرالي- أرشيف نيويورك تايمز- موقع تاريخ الضمان الاجتماعي الأمريكي- مجلة المحاسبة والأعمال المالية الأسترالية- إنفستوبيديا- مدونة إستيودنت أوف هيستوري- بي بي إس- هيستوري- أفا تريد- شات جي بي تي- كلود- بريبلكستي
(operate (d, s, id) {
var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0];
if (d.getElementById(id)) return;
js = d.createElement(s); js.id = id; js.async = true;
js.src = “//join.fb.web/en-US/sdk.js#xfbml=1#xfbml=1&appId=1581064458982007&model=v2.3”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);
}(doc, ‘script’, ‘facebook-jssdk’));