في زمنٍ تُقاس فيه السرعة بأجزاء من الثانية، أصبح للأنظمة الذكية صوت أعلى من صرخات المتداولين في قاعة السوق.
وتحوّلت البورصات في السنوات الأخيرة من ساحات تعج بالأصوات المرتفعة إلى منصات صامتة تحكمها خوارزميات لا تنام، تتخذ آلاف القرارات في جزء من الثانية، وتحرّك مليارات الدولارات عبر أسطر من الأكواد.
لكن، هل يعني ذلك أن الخوارزميات أصبحت اللاعب الوحيد داخل الأسواق؟ أم أن هناك قوى أخرى – كبنوك الاستثمار، البنوك المركزية، الشركات العملاقة، وصناديق التحوّط – لا تزال تمتلك نفوذًا لا يستهان به؟
فالمتابع لأسواق الأسهم العالمية سيلاحظ أن الخوارزميات لم تعد مجرد أدوات مساعدة، بل أصبحت جزءًا جوهريًا من البنية التحتية للأسواق، فهي تتدخل في تحديد الأسعار، وقرارات البيع والشراء، وتوقيت الصفقات، وحتى التفاعل مع الأخبار الاقتصادية في لحظتها.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
صعود التداول بالخوارزميات
أصبح التداول بالخوارزميات، وخصوصًا التداول عالي التردد، قوة مهيمنة في الأسواق المالية، ويرجع هذا التحول إلى الحاجة لتنفيذ الأوامر بسرعة، وخفض التكاليف، والقدرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات في الوقت الحقيقي.
ففي الولايات المتحدة، تمثل هذه العمليات أكثر من 60% من إجمالي أحجام التداول في الأسهم، فيما تشير البيانات إلى أن المستثمرين المؤسسيين ينجزون نحو 80% من تداولاتهم عبر الخوارزميات.
أما في أوروبا، فقد شهدت الأسواق نموًا متسارعًا في استخدام الخوارزميات، مدفوعًا بتقدم البنية التحتية الرقمية وتشديد الأطر التنظيمية التي تشجع الشفافية وتقلل التلاعب.
فشركات مثل إكس تي إكس ماركتس وفلو تراديرز أصبحت من اللاعبين الرئيسيين في البورصات الأوروبية معتمدة بشكل أساسي على تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في تنفيذ الصفقات وتحليل اتجاهات السوق.
وتشير التقارير إلى أن نسبة التداول الخوارزمي في بعض البورصات الأوروبية مثل بورصتي لندن ويورونكست تجاوزت 50% من إجمالي التداولات اليومية.
أما في آسيا، فتشهد دول مثل الصين والهند واليابان نموًا متسارعًا في التداول الآلي، مدفوعًا بالتحول الرقمي والسياسات الحكومية الداعمة.
كل هذه المؤشرات تعني تزايد الاعتماد على الخوارزميات التي باتت قادرة على التفاعل مع الأخبار والبيانات المالية وحتى المزاج العام للمستثمرين، ما يمنحها القدرة على استباق التحركات قبل أن يدركها الإنسان.
من هم اللاعبون الآخرون المؤثرون في الأسواق؟
رغم صعود الخوارزميات، لا تزال هناك جهات وعوامل تلعب أدوارًا حاسمة في تشكيل الأسواق، من أبرزها:
1- المستثمرون المؤسسيون:
تشمل هذه الفئة صناديق التحوط، وصناديق التقاعد، والصناديق المشتركة، وهي لا تزال تمتلك تأثيرًا كبيرًا على تحركات السوق، وإن كان البعض يرى أن تأثير تلك الفئة أصبح محدودًا في ظل تبنيها لاستراتيجيات الخوارزمية لإدارة المخاطر وتحسين الأداء.
فعلى سبيل المثال، يُظهر تقرير صادر في مارس 2025 أن صندوق التحوط رينيسانس تكنولوجيز – المعروف باستخدامه المكثف للخوارزميات – حقق عوائد تجاوزت 18% في الربع الأول من العام، متفوقًا على السوق بفضل استراتيجيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات اللحظي.
2- البنوك المركزية:
لا تزال قرارات البنوك المركزية مثل رفع أو خفض أسعار الفائدة وبرامج التيسير الكمي تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مستويات السيولة وتوجيه مزاج المستثمرين وتحركات الأسهم في البورصات.
فمؤخرًا تسبب إعلان بنك اليابان في أبريل 2025 عن أول رفع لسعر الفائدة منذ أكثر من 15 عامًا في تقلبات حادة في سوق السندات اليابانية وارتفاع فوري في قيمة الين، وقد أثّر ذلك على تحركات الأسهم اليابانية وبقية الأسواق الآسيوية المرتبطة.
3- الأحداث الجيوسياسية:
تعد الأحداث الجيوسياسية من أبرز القوى المؤثرة في أداء أسواق المال حيث يمكن أن تؤدي النزاعات التجارية، وعدم الاستقرار السياسي، وتغيّر السياسات الحكومية إلى تقلبات كبيرة.
وأدى تخفيض وكالة موديز للتصنيف الائتماني للولايات المتحدة أمس الاثنين بسبب مخاطر الديون، إلى هبوط السندات الأمريكية بأكثر من 1% وانخفاض قيمة الدولار الأمريكي، مما ينعكس على أداء سوق الأسهم بشكل أو بآخر.
4- الجهات التنظيمية:
تؤثر القوانين واللوائح على أنظمة التداول وبنية السوق، مثلما حدث مع إصدار هيئة الأسواق المالية الأوروبية في فبراير الماضي تحديثًا يتطلب من شركات التداول بالخوارزميات الإفصاح عن تفاصيل نماذجها الآلية في حال حصول اضطرابات كبيرة في السوق.
وقد أدى هذا التحديث إلى انسحاب بعض الشركات الصغيرة من السوق الأوروبي مؤقتًا لإعادة تقييم نماذجها وتقليل المخاطر التنظيمية.
التأثير الاقتصادي لاستخدام الخوارزميات
تُمثل الخوارزميات عاملًا مهمًا في زيادة الكفاءة وتقليل تكاليف التنفيذ في الأسواق المالية، ويساهم ذلك في تقليص الفروقات السعرية وزيادة سيولة الأصول.
وأظهرت دراسة نشرها “مركز الأبحاث المالية في جامعة شيكاغو” أن دخول شركات التداول عالي التردد إلى بورصة نيويورك بين عامي 2010 و2023 أدى إلى تقليص فروقات الأسعار للأسهم ذات السيولة العالية بنسبة تصل إلى 50%.
هذا الانخفاض عزز قدرة المستثمرين على تنفيذ أوامرهم بكفاءة، ورفع من إجمالي حجم التداول في السوق، مما ساهم في جعل الأسواق أكثر سيولة.
لكن في المقابل، قد تؤدي المنافسة الآلية إلى تفاقم التقلبات اللحظية، مما يفرض تكاليف غير مباشرة على المستثمرين الأفراد.
ففي مايو 2010، شهدت الأسواق الأمريكية ما يُعرف بـ “الانهيار الخاطف”، حيث فقد مؤشر داو جونز أكثر من ألف نقطة في دقائق، قبل أن يرتد سريعًا، وأرجع المحققون السبب الرئيسي إلى تفاعل خوارزميات بيع تلقائية أدت إلى تسارع غير طبيعي في انخفاض الأسعار.
هذا الحدث أبرز كيف يمكن للخوارزميات، رغم فعاليتها، أن تتسبب في تقلبات عنيفة لحظية تضر بالمستثمرين الأفراد، لكونهم لا يملكون نفس سرعة الاستجابة.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن الأسواق التي تعتمد بشكل مفرط على الخوارزميات قد تعاني من “انفصال” بين التسعير الفوري وقيم الأصول الحقيقية، ما يخلق فرصًا ومخاطر معقدة في آن واحد.
كما أن التوسع في الاعتماد على الخوارزميات يؤدي بشكل متزايد إلى تراجع دور المستثمرين الأفراد في تشكيل حركة السوق.
وفي هذا الإطار كشفت هيئة الأوراق المالية والبورصات الهندية في تقرير لها قبل عامين أن ارتفاع الاعتماد على الخوارزميات لدى المؤسسات المالية الكبرى أدى إلى تراجع دور المستثمرين الأفراد في تشكيل حركة السوق.
كما لاحظت الهيئة أن الفجوة بين المؤسسات والأفراد في القدرة على الوصول للمعلومات والتنفيذ السريع تسببت في “انحرافات سعرية قصيرة المدى” تضر بالعدالة التنافسية، مما دعاها لمراجعة سياساتها التنظيمية.
هناك أيضًا تكاليف خفية بسبب المنافسة الآلية، فوفقًا لتقرير صادر عن البنك المركزي الأوروبي عام 2022، أظهرت بيانات الأسواق الأوروبية أن التداول الخوارزمي يُنتج “سلوكيات تمويهية” مثل تقديم وسحب أوامر بكثافة.
وتتسبب تلك الممارسات في العديد من السلبيات مثل إرهاق أنظمة البورصات وزيادة تكاليف التنفيذ الفعلية للمستثمرين التقليديين.
تحديات عصر التداول الخوارزمي
يصعب الحديث عن سيطرة الخوارزميات على الأسواق دون التطرق إلى ما أفرزته من تحديات عميقة على المستويين التنظيمي والأخلاقي.
فمع تصاعد نفوذها، لم تعد الجهات الرقابية قادرة على الاكتفاء بالأطر التقليدية لضبط إيقاع السوق، وبرزت أسئلة جديدة حول العدالة، والشفافية، وتكافؤ الفرص بين المستثمرين.
وتعاني الهيئات الرقابية حول العالم من صعوبة مواكبة الابتكارات التقنية المتسارعة في مجال التداول، مما يثير تساؤلات جوهرية حول مدى كفاءة القوانين الحالية في حماية الأسواق والمستثمرين.
ففي أوروبا، على سبيل المثال، تفرض اللائحة الأوروبية متطلبات إفصاح إضافية على الأنظمة الخوارزمية، في محاولة لتعزيز الشفافية وتقليل المخاطر النظامية.
وفي الولايات المتحدة، جرى تطبيق نظام مراقبة شامل يُعرف باسم “كات” لتتبع كل الأوامر والصفقات بدقة عالية.
ومع ذلك، لا تزال هناك فجوات تنظيمية حادة تتعلق بالشفافية والمساءلة وتضارب المصالح، إذ تواجه الجهات الرقابية صعوبة في التحقق من كيفية عمل النماذج الخوارزمية المعقدة، لا سيما عندما تؤدي إلى تحركات مفاجئة أو اختلالات في السوق يصعب تفسيرها.
وبموازاة التحديات التنظيمية، يطرح الانتشار الواسع للخوارزميات في الأسواق المالية أسئلة أخلاقية متزايدة من بينها هل من العدل أن تمتلك المؤسسات الكبرى أدوات تكنولوجية فائقة تمنحها ميزة تنافسية ضخمة على حساب المستثمرين الأفراد؟
ويرى بعض الخبراء أن غياب التكافؤ في فرص الوصول إلى التكنولوجيا والمعلومات قد يؤدي إلى إضعاف ثقة الجمهور في عدالة الأسواق، وهو ما قد ينعكس على المشاركة العامة ويقوّض استقرار النظام المالي ككل.
في المقابل، يدعو آخرون إلى التركيز على رفع الوعي وتعزيز الشفافية بدلاً من فرض قيود صارمة قد تعرقل الابتكار والتطور الطبيعي للأسواق.
ورغم أن الخوارزميات أصبحت العمود الفقري للأسواق الحديثة، إلا أنها لا تعمل في فراغ، فهي جزء من منظومة أوسع تتفاعل فيها التكنولوجيا مع المصالح الاقتصادية، والسياسات النقدية، والقواعد التنظيمية، والمخاوف الأخلاقية.
ومع دخول الأسواق مرحلة جديدة من الذكاء الاصطناعي والتحليل اللحظي، يصبح التحدي الأكبر ليس فقط في فهم هذه الخوارزميات، بل في ضمان أن تخدم الشفافية، والكفاءة، وعدالة الوصول بدلًا من أن تعمّق الفجوة بين من يملكون أدوات السوق ومن يُتركون على الهامش.
المصادر: أرقام- تريدنج شارتس- ذا جارديان- فايننشال نيوز لندن- رويترز- بلومبرج- البنك المركزي الأوروبي- هيئة الأسواق المالية الأوروبية
(operate (d, s, id) {
var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0];
if (d.getElementById(id)) return;
js = d.createElement(s); js.id = id; js.async = true;
js.src = “//join.fb.web/en-US/sdk.js#xfbml=1#xfbml=1&appId=1581064458982007&model=v2.3”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);
}(doc, ‘script’, ‘facebook-jssdk’));