– في خضم التحديات المتسارعة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي، يطرح العالم والخبير في هذا المجال، جاري ماركوس، سؤالًا محوريًا في كتابه الأخير “ترويض وادي السيليكون: كيف نضمن أن يعمل الذكاء الاصطناعي من أجلنا؟”.
– وهو سؤال يتردد صداه بقوة في الأوساط السياسية والتقنية على حد سواء: كيف يمكن إخضاع قوى الذكاء الاصطناعي المتنامية، التي باتت اليوم تحت هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى، لمعايير الحوكمة والمساءلة الديمقراطية؟
– يتعمق الكتاب في المخاطر الأخلاقية والتنظيمية المترتبة على هذا التوسع الجامح للذكاء الاصطناعي؛ ويحذر ماركوس من أن استمرار هذا النمو غير المنضبط، المدفوع فقط بتعظيم الأرباح، قد يقودنا إلى مستقبل تتحكم فيه الخوارزميات ومصالح الشركات العملاقة بدلًا من البشر.
الذكاء الاصطناعي: من ثورة علمية مذهلة إلى قوة مهيمنة
– يرصد ماركوس التحول الجذري للذكاء الاصطناعي منذ انطلاقته البحثية في مؤتمر دارتموث عام 1956، حيث كانت طموحاته لا تتجاوز برمجة الحاسوب للعب الشطرنج. لكن ما كان يومًا حلمًا أكاديميًا، أصبح اليوم قوة متغلغلة في أدق تفاصيل حياتنا اليومية.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
– تطورت هذه التقنيات لتمتلك قدرات لغوية وتنبؤية مذهلة عبر النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs)، مما يمكنها من إنتاج النصوص والصور، وتنفيذ المهام، بل وتوجيه الأذواق والسلوكيات البشرية.
– بيد أن هذا التحول يثير تساؤلًا جوهريًا: هل لا يزال الإنسان فاعلًا حرًا في هذا النظام، أم أنه بات مجرد “طرفٍ سلبيٍّ”، تسيره الخوارزميات بلا حسيب أو رقيب في رحلةٍ مجهولة المصير؟
المخاطر المحدقة: تضليل، وتحيز، وتلاعب ديمقراطي
– يشدّد ماركوس على المخاطر الجسيمة للذكاء الاصطناعي التوليدي، لا سيّما في سياق التلاعب بالمعلومات والأسواق والسياسة.
– بدءًا من الحسابات الوهمية والمحتوى المضلل، إلى الانحيازات الخفية في القرارات الآلية، تبرز مشكلات تهدد بنية المجتمعات الديمقراطية، وتمس حقوق الأفراد في الخصوصية والمساواة والمعرفة الدقيقة.
– كشفت حوادث سابقة، مثل فضيحة نظام الخدمات الاجتماعية في هولندا أو خوارزميات التمييز في أستراليا، كيف يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تنتج قرارات تمييزية تضر بالفئات المهمشة؛ مما يسلط الضوء على الأهمية القصوى للمساءلة الأخلاقية قبل التقنية.
شركات التكنولوجيا الكبرى: بين السعي للربح والانحدار الأخلاقي
– يكشف ماركوس النقاب عن تحول جوهري في البنية الفكرية لعمالقة التكنولوجيا، مثل ميتا وجوجل وأوبن إيه آي، مؤكدًا أنها تجاوزت مرحلة “التمكين البشري” لتستقر في فلك “الهيمنة السوقية”.
– بدأ هذا الانحدار الأخلاقي، بحسب ماركوس، مع تغليب هذه الشركات لمبدأ الربح على حساب الصالح العام، مستخدمةً نفوذها السياسي لتشكيل السياسات التنظيمية بما يخدم مصالحها الضيقة.
– وفي سبيل ضمان استمرارية “ضجة الذكاء الاصطناعي” وتأجيجها، تلجأ هذه الشركات إلى تضخيم وعودها المستقبلية والتقليل من شأن المخاطر المحتملة.
– وليس هذا فحسب، بل تمتد استراتيجيتها لتشمل تجنيد المنظمين السابقين في ظاهرة تُعرف بـ “الباب الدوار”، سعيًا منها لاحتكار السردية المتعلقة بالمستقبل التكنولوجي وقولبته وفق رؤيتها الخاصة.
التهديد الوجودي: من الاحتكار التقني إلى “الاستعمار التكنولوجي”
– في تحذير لافت، يشير ماركوس إلى أن نفوذ شركات التكنولوجيا الكبرى تجاوز التأثير الاقتصادي ليبلغ حد السيطرة على مؤسسات الدولة، واصفًا ذلك بـ “الاستعمار التكنولوجي”.
– ويرى أن الجهاز البيروقراطي للدولة، وهو أداة الإدارة والتنظيم، بات هو الآخر هدفًا لتفكيك منظم تسعى إليه التيارات الشعبوية التي تتحالف ضمنيًا مع التكنولوجيا الكبرى، مما يهدد القدرة المؤسسية على مواجهة التجاوزات.
لكن هل يمكن بالفعل كبح هذا النفوذ المتصاعد؟
– يقترح ماركوس حزمة من الأدوات الإصلاحية تبدأ من تعزيز حقوق البيانات، وفرض شفافية الخوارزميات، وصولًا إلى إنشاء هيئات رقابة مستقلة ومتعددة المستويات، بما في ذلك التنسيق الدولي من أجل حوكمة عادلة وشاملة للذكاء الاصطناعي.
– يؤكد ماركوس أن استعادة السيطرة تتطلب إعادة إحياء المؤسسات الديمقراطية وتحصينها ضد ضغوط مراكز القوى التكنولوجية.
– بل يدعو إلى تمثيل المواطنين والمجتمع المدني في مجالس إدارة تلك الشركات، لضمان أن تكون المصالح العامة جزءًا أصيلًا من عمليات اتخاذ القرار التكنولوجي.
أزمة “المشاعات الرقمية”: هل نضحي بالمستقبل من أجل الحاضر؟
– يختتم ماركوس بإشارة ذكية إلى ما يشبه “مأساة المشاعات” في علم الاقتصاد، حيث تفضي الأنانية الجماعية إلى استنزاف الموارد المشتركة.
– في هذا الإطار، يحذر من أن السعي وراء مكاسب قصيرة الأجل في الذكاء الاصطناعي قد يفضي إلى نتائج كارثية على المدى البعيد، إن لم يتم التدخل الآن.
– وفي حين يقترح باحثون آخرون 5 استراتيجيات لمواجهة هيمنة الذكاء الاصطناعي: تفكيكه، أو السيطرة عليه، أو ترويضه، أو الهروب منه، أو مقاومته.
– يؤمن ماركوس بأن الحل الحقيقي لا يكمن في الهروب، بل في إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي نحو المنفعة العامة، عبر أدوات سياسية ومؤسسية وشعبية متماسكة.
الخلاصة: من الصمت إلى الفعل
– إن قدرة شركات التكنولوجيا الكبرى على مقاومة التنظيم، وانخراطها في تشكيل السياسات العامة، لا تعد مجرد مسألة اقتصادية، بل تعد تحديًا حقيقيًا لمفهوم الدولة الحديثة والديمقراطية نفسها.
– وكما يشدّد ماركوس، فإن التغيير لن يأتي من وادي السيليكون، بل من ضغط عالمي، وتحرك سياسي عابر للحدود، وتضامن مؤسسي يستعيد فكرة أن التكنولوجيا يجب أن تعمل لصالح الناس، لا العكس.
المصدر: كلية لندن للاقتصاد
(operate (d, s, id) {
var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0];
if (d.getElementById(id)) return;
js = d.createElement(s); js.id = id; js.async = true;
js.src = “//join.fb.web/en-US/sdk.js#xfbml=1#xfbml=1&appId=1581064458982007&model=v2.3”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);
}(doc, ‘script’, ‘facebook-jssdk’));