يظن كثيرون أن عاداتهم الغذائية تندرج ضمن نطاق شخصي بحت، مقتصرة آثارها على صحتهم أو ذوقهم فقط، لكن الحقيقة أن ما نأكله، وكيف ننتجه ونستهلكه، له تبعات تتجاوز حدود الفرد وتؤثر على الاقتصاد العالمي بأسره.
فالأنظمة الغذائية لا تقتصر على كونها أنماطًا معيشية فقط، بل منظومات مترابطة تؤثر في سلاسل الإمداد، واستدامة الموارد الطبيعية، والميزانيات الصحية للدول، وانبعاثات الكربون.
ومع تزايد التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي وتغير المناخ، باتت الخيارات الغذائية اليومية تتحول تدريجيًا إلى قضايا اقتصادية عالمية الطابع، رغم أن كثيرًا ما يُجهل تأثيرها الكامل على الاقتصاد.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
فإلى جانب التكاليف الظاهرة للإنتاج والاستهلاك، هناك “تكاليف خفية” ضخمة لا تنعكس في الأسعار السوقية للأغذية، وفهم هذه التكاليف الخفية ضروري لبناء أنظمة غذائية أكثر استدامة وعدالة.
التكاليف الخفية للنظم الغذائية العالمية
تلعب النظم الغذائية دورًا حاسمًا في الاقتصاد العالمي، حيث تُقدّر قيمتها الإجمالية بنحو 3.8 تريليون دولار أمريكي في عام 2022، وفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو).
ورغم هذا فإن التكاليف الخفية للأنظمة الغذائية حول العالم تصل إلى أضعاف هذا الرقم وتبلغ نحو 12 تريليون دولار سنويًا، وهو ما يعادل تقريبًا 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وفي هذا الإطار يقول “ماكسيمو توريرو”، كبير الخبراء الاقتصاديين في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو): “إننا لا نحسب الكلفة الحقيقية لما نأكله، فهي تعتمد على أسعار الغذاء الحالية ولا تعكس الأثر البيئي أو الصحي أو الاجتماعي”.
وتتنوع تلك التكاليف ما بين أعباء صحية ناتجة عن أنماط التغذية غير السليمة، وتكاليف بيئية ناجمة عن ممارسات الزراعة والصناعة الغذائية، وتأثيرات اجتماعية تمس سبل العيش وظروف العمل في سلاسل الإمداد الغذائية.
وتشكل الأعباء الصحية أكثر من 70% من إجمالي التكاليف الخفية حيث تؤدي الأنظمة الغذائية غير الصحية، التي تحتوي على نسب عالية من الأغذية المعالجة والدهون والسكريات، إلى أمراض مزمنة مثل السمنة والسكري وأمراض القلب.
وتترجم تلك الأمراض إلى خسائر في الإنتاجية ونفقات مرتفعة من أجل توفير الرعاية الصحية لأصحاب تلك الأمراض.
أما التكاليف البيئية الناجمة عن الزراعة، والتي تشمل أثرها على المناخ من خلال انبعاثات الغازات الدفيئة، وتسرب النيتروجين، وتدهور الأراضي، وتلوث المياه، فتمثل نحو 20% من إجمالي التكاليف الخفية للأنظمة الغذائية.
في حين تستحوذ التكاليف الاجتماعية على النسبة المتبقية (10%)، إذ تشمل الآثار السلبية على المجتمعات الريفية وصغار المزارعين والعاملين في سلاسل الإمداد الغذائية، الذين غالبًا ما يواجهون ظروف عمل غير عادلة، وأجورًا منخفضة، وانعدامًا للأمان الوظيفي.
كما تسهم الفجوات في الوصول إلى الغذاء المغذي والآمن في تعزيز عدم المساواة بين الدول وأحيانًا داخل البلد نفسه، ما يؤدي إلى تفاقم الفقر وسوء التغذية في العديد من المجتمعات، لا سيما في الدول النامية.
وتنعكس هذه التكاليف مجتمعةً على اقتصادات الدول، حيث تُضطر الحكومات إلى إنفاق المزيد على دعم القطاعات الصحية والبيئية والاجتماعية، ما يقلل من كفاءة الإنفاق العام ويحد من القدرة على الاستثمار في مجالات التنمية الأخرى.
ولذلك، فإن تجاهل هذه التكاليف الخفية قد يُبقي السياسات الغذائية محدودة الأفق، ويحول دون بناء أنظمة غذائية أكثر استدامة وعدالة على المدى الطويل.
التفاوت الاقتصادي والتأثير حسب الدول
تُظهر التكاليف الخفية للأنظمة الغذائية تفاوتًا ملحوظًا بين الدول بحسب مستوى دخلها، ما يعكس هشاشة النظم الغذائية في البيئات الأقل استقرارًا اقتصاديًا.
ففي الدول منخفضة الدخل، تصل هذه التكاليف إلى ما يقارب 27% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم مرتفع يُعزى إلى ارتفاع معدلات الفقر وسوء التغذية ونقص خدمات الرعاية الصحية الأساسية.
وغالبًا ما تتفاقم هذه التحديات بسبب ضعف البنية التحتية الزراعية وسوء توزيع الغذاء.
أما الدول متوسطة الدخل، فتُقدّر التكاليف الخفية بها بنحو 11% من الناتج المحلي الإجمالي، نتيجة التداخل بين التحديات الغذائية التقليدية وظهور أنماط استهلاك جديدة غير صحية مرتبطة بالتحول الحضري والنمو السكاني السريع.
وفي الدول مرتفعة الدخل، تنخفض النسبة إلى نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن هذه النسبة لا تعكس بالضرورة واقعًا أفضل، بل تعود في جزء كبير منها إلى ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعل التكاليف الخفية تبدو أقل نسبيًا.
فعلى الرغم من ضخامة هذه التكاليف من حيث القيمة المطلقة، فإن اقتصادات الدول الغنية قادرة على استيعابها وتغطيتها من خلال نظم صحية متقدمة وإنفاق عام مرتفع.
لكن ذلك لا يعني أن أنظمتها الغذائية أكثر صحة أو استدامة، بل إنها تواجه تحديات مختلفة تتعلق بالإفراط في الاستهلاك والهدر الغذائي، إلى جانب الأثر البيئي لأنماط الإنتاج الصناعي واسعة النطاق.
وتُظهر هذه الأرقام بجلاء أن معالجة التكاليف الخفية للغذاء ليست فقط مسألة اقتصادية، بل قضية تنموية شاملة تتطلب سياسات غذائية عادلة ومستدامة.
عوائق أمام بناء نظام غذائي صحي ومستدام
رغم الوعي المتزايد بضرورة إصلاح الأنظمة الغذائية لجعلها أكثر صحة واستدامة، لا تزال هناك مجموعة من التحديات الكبرى التي تعرقل هذا التحول.
وتتنوع هذه العقبات بين ارتفاع الأسعار، والضغوط البيئية والاجتماعية، وانعدام الأمن الغذائي، إضافة إلى بطء الاستجابة من قبل ساسة الدول الكبرى المسيطرة على أسواق السلع الغذائية.
ويمثل تضخم أسعار الغذاء أحد أبرز العوائق أمام الوصول إلى نظام غذائي متوازن.
ففي أبريل الماضي، واصل مؤشر أسعار الغذاء العالمي الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) ارتفاعه، مسجلاً 128.3 نقطة، بزيادة قدرها 1% مقارنة بشهر مارس، و7.6% مقارنة بأبريل 2024.
ويُعزى هذا الارتفاع إلى زيادة أسعار الحبوب ومنتجات الألبان واللحوم، هذا الارتفاع لا ينعكس فقط على المستهلكين، بل يثقل كاهل الحكومات المستوردة.
وتجاوزت فاتورة واردات الغذاء العالمية 2 تريليون دولار في عام 2024، بزيادة قدرها 2.2% عن العام السابق، مدفوعة بارتفاع أسعار العديد من السلع الرئيسية مثل الزيوت النباتية واللحوم ومنتجات الألبان.
وتُعد هذه الفاتورة عبئًا ثقيلًا على الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، وتكشف عن هشاشة الاعتماد على سلاسل توريد غذائية عالمية غير مستقرة.
التحديات البيئية والاجتماعية للنظم الغذائية
تلعب الأنظمة الغذائية دورًا رئيسيًا في تغير المناخ، إذ بلغت الانبعاثات الكربونية الصادرة عنها نحو 16.2 مليار طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون في عام 2022، وهو ما يمثل نحو 37% من إجمالي الانبعاثات العالمية، بزيادة 10% عن عام 2000.
يأتي ذلك نتيجة الاستخدام المكثف للطاقة والمياه، وقطع الغابات، واستخدام الأسمدة والمواد الكيميائية الزراعية.
إلى جانب ذلك، يُعتبر الهدر الغذائي من أبرز التحديات، حيث يُهدر نحو 88 مليون طن من الغذاء سنويًا في الاتحاد الأوروبي وحده، وتُشكّل الأسر نحو 50% من هذا الهدر.
على الصعيد العالمي، تشير التقديرات إلى أن ثلث الغذاء المنتج يُهدر، ما يُفضي إلى إهدار موارد طبيعية كان بالإمكان توجيهها لحل مشكلات الفقر والجوع.
وعلى الصعيد الإنساني، فقد عانى أكثر من 295 مليون شخص في 53 دولة من انعدام الأمن الغذائي الحاد في عام 2024، بزيادة 5% عن عام 2023، مدفوعة بالصراعات والكوارث المناخية والصدمات الاقتصادية.
ويُهدد ذلك الاستقرار المجتمعي، ويُضعف قدرة الدول على تحقيق نمو اقتصادي مستدام.
فرص التحول والاستدامة
رغم هذه التحديات، فإن التحول نحو أنظمة غذائية أكثر استدامة وصحة ليس فقط ضروريًا، بل مجديًا اقتصاديًا.
وقُدّرت الفوائد الاقتصادية لهذا التحول بما يتراوح بين 5 و10 تريليونات دولار سنويًا، والتي تشمل تحسين الصحة العامة، ورفع الإنتاجية، وتقليل الإنفاق على الرعاية الصحية، إلى جانب الحد من الأضرار البيئية.
وبالمقابل، تُقدّر تكلفة هذا التحول بنحو 500 مليار دولار سنويًا حتى عام 2050، وهو مبلغ يُعد متواضعًا مقارنة بالعوائد الاقتصادية والاجتماعية الممكنة.
ومن أجل تعزيز النظم الغذائية المحلية، يجب السعي للاستثمار في الزراعة المحلية بهدف تقليل الاعتماد على الواردات، وتعزيز الأمن الغذائي الوطني، مما يسهم في خفض البصمة الكربونية للنقل والتوزيع.
كما يمكن تقليل الهدر الغذائي من خلال سياسات تُعزز الكفاءة في سلاسل التوريد، وتُشجّع المستهلكين على الاستهلاك الواعي، وتُحفّز الجهات الفاعلة في القطاع على التبرع بالفائض بدلًا من التخلص منه.
ويمثل تحسين جودة الأنظمة الغذائية فرصة جديدة لخفض التكاليف الخفية لأنظمة الغذاء، وذلك عبر التثقيف الغذائي، والدعم الحكومي للأطعمة الصحية، وفرض ضرائب على المنتجات الضارة مثل المشروبات السكرية والأطعمة فائقة المعالجة.
ومن بين الحلول الفعالة الاستثمار في الابتكار الزراعي، من خلال دعم التكنولوجيا والزراعة الذكية مناخيًا، بما يُحسّن الكفاءة، ويُقلل الهدر، ويُخفف من الأثر البيئي لإنتاج الغذاء.
ففي عالم يزداد تعقيدًا وتداخلًا، لم يعد إصلاح النظم الغذائية ترفًا تنادي به المؤسسات الدولية أو خبراء الصحة والبيئة، بل ضرورة اقتصادية وأخلاقية في آنٍ واحد.
فتكلفة الاستمرار في المسار الحالي لا تُقاس فقط بما يُهدر من موارد أو يُفاقم من أمراض، بل بما يُضيّع من فرص لبناء مجتمعات أكثر صحة وعدالة واستدامة.
وإن كانت الأرقام تشير إلى تريليونات تُهدر سنويًا بسبب اختلالات النظام الغذائي العالمي، فإن طريق التحول نحو أنظمة صحية وأكثر استدامة اقتصادية -رغم ما يستدعيه من استثمارات وجهود تنسيقية- يَعِدُ بعوائد تفوق التكاليف أضعافًا مضاعفة.
المصادر: أرقام- منظمة الأغذية والزراعة- المنتدى الاقتصادي العالمي- الأمم المتحدة- صحيفة لوموند- رويترز- فايننشال تايمز
(operate (d, s, id) {
var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0];
if (d.getElementById(id)) return;
js = d.createElement(s); js.id = id; js.async = true;
js.src = “//join.fb.internet/en-US/sdk.js#xfbml=1#xfbml=1&appId=1581064458982007&model=v2.3”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);
}(doc, ‘script’, ‘facebook-jssdk’));