بين وعود اليوتوبيا ومخاطر الديستوبيا

– في قلب الثورة التكنولوجية التي تجتاح كوكبنا، يقف “الذكاء الاصطناعي” كمحرك جبار لا يهدأ، يرسم ملامح مستقبل لم نكن نجرؤ حتى على تخيله.

– لم يعد الأمر مجرد خيال علمي حبيس شاشات السينما، بل أصبح واقعًا يتسلل إلى أدق تفاصيل حياتنا، من طريقة عملنا وتواصلنا، إلى كيفية تعلمنا وعلاجنا.

– ومع بزوغ فجر “الذكاء الاصطناعي التوليدي”، فُتحت أبواب جديدة على مصراعيها، حاملةً معها وعودًا براقة ومخاطر وجودية في آنٍ واحد.

– فهل نحن على أعتاب يوتوبيا تقنية تَعِدُ بالرخاء والابتكار، أم أننا نفتح “صندوق باندورا” الذي قد يطلق تحديات تفوق قدرتنا على السيطرة؟

سباق تكنولوجي محموم

– لم تعد الشركات الكبرى تنظر إلى الذكاء الاصطناعي كخيار، بل كضرورة حتمية للبقاء في ساحة المنافسة. وفي هذا السياق، يكشف استقصاء أجرته شركة آي بي إم عن حجم هذا التحول؛ حيث عمدت 42% من الشركات العملاقة إلى دمج الذكاء الاصطناعي في عملياتها بالفعل، بينما تستعد 40% أخرى للحاق بالركب.

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

– أما الذكاء الاصطناعي التوليدي، بطل المشهد الحالي، فقد تبنته 38% من المؤسسات، مع خطط لدى 42% أخرى لتبنيه قريبًا. وهنا يطرح هذا السباق المحموم سؤالًا جوهريًا: ما الذي يخبئه لنا هذا العملاق التكنولوجي؟

من جاري كاسباروف إلى “تشات جي بي تي”: رحلة تطور مذهلة

– قطع الذكاء الاصطناعي رحلة طويلة وشاقة منذ أيامه الأولى في الخمسينيات. كانت البداية متواضعة مع برامج الشطرنج البدائية، لكن القفزة النوعية حدثت عام 1997، عندما اهتز العالم لهزيمة بطل الشطرنج الأسطوري جاري كاسباروف على يد حاسوب “ديب بلو” من آي بي إم.

– وتوالت الانتصارات، ليفوز حاسوب “واتسون” في برنامج المسابقات الشهير “جيوباردي!” عام 2011، مُثبتًا قدرته على فهم اللغة البشرية المعقدة.

– واليوم، نعيش ذروة هذه المسيرة مع نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي. فمنذ إطلاق شركة أوبن إيه آي لنموذجها جي بي تي-40 ورفيقه “تشات جي بي تي”، أصبح بإمكان أي شخص تقريبًا توليد نصوص وصور ومقاطع صوتية بجودة مدهشة.

– ولم تترك المنافسة الساحة فارغة، إذ دخل عمالقة مثل جوجل بنموذج “جيميني”، وأنثروبيك بنموذج “كلود”، وصولًا إلى نماذج مثل R1 وV3 من ديب سيك التي أحدثت ضجة في أوائل 2025 لقدرتها على مجاراة الكبار بتكلفة تشغيل زهيدة.

صناعات تولد من جديد

لا توجد صناعة تقريبًا بمنأى عن لمسة الذكاء الاصطناعي.

– في قطاع الرعاية الصحية: يساعد في تشخيص الأمراض بدقة وسرعة فائقتين، ويسرّع اكتشاف الأدوية.

 

– في قطاع التمويل: يُستخدم لكشف الاحتيال، وتقييم المخاطر، واتخاذ قرارات استثمارية ذكية في أجزاء من الثانية.

 

– في مجال التعليم: يعمل على تخصيص تجربة التعلم لكل طالب على حدة، مما يعد بثورة في طرق اكتساب المعرفة.

 

– في قطاع النقل: تقترب السيارات ذاتية القيادة، التي كانت حلمًا بعيد المنال، من أن تصبح واقعًا سيغير مفهوم التنقل إلى الأبد.

السؤال الأخير: هل نصنع نهايتنا بأيدينا؟

بينما نتجادل حول الوظائف والخصوصية، تلوح في الأفق مخاطر أكثر وجودية.

 

– الأسلحة المستقلة: يشكّل تطوير أسلحة قادرة على اتخاذ قرار القتل دون تدخل بشري تهديدًا مباشرًا للسلم العالمي، حيث تفشل هذه الأنظمة في التمييز بين المقاتلين والمدنيين.

 

– الذكاء الفائق: يتخوف كبار العلماء والمفكرين من سيناريو “الوحدة التكنولوجية”، وهي اللحظة التي يتجاوز فيها ذكاء الآلة الذكاء البشري بشكل لا يمكن السيطرة عليه، مما قد يؤدي إلى استعباد البشرية أو حتى إبادتها.

ورغم أن هذا السيناريو قد يبدو بعيدًا، فإن مارك جيونجيوسي، مؤسس Onetrack.AI، يحذرنا بقوله إنه لا يعتقد أن أساليبنا الحالية ستؤدي إلى آلات تقرر قتلنا. لكن ربما بعد خمس أو عشر سنوات، سيتعين علينا إعادة تقييم هذا التصريح.

خاتمة: قيادة الثورة بحكمة

– إن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل هو قوة تحولية هائلة. إنه يَعِدُ بتسريع وتيرة الابتكار بشكل لم يسبق له مثيل، فيما أسماه داريو أمودي، رئيس شركة أنثروبيك (Anthropic)، “القرن الحادي والعشرون المضغوط”، حيث يمكن تحقيق ما يعادل 100 عام من التقدم في عقد واحد فقط.

– بيد أن هذه القوة تأتي مع مسؤولية عظيمة؛ فالمستقبل الذي سيشكّله الذكاء الاصطناعي يعتمد اعتمادًا كليًا على اختياراتنا اليوم.

– ويتوجب على الحكومات والمؤسسات والأفراد العمل معًا لوضع ضوابط أخلاقية وقانونية تضمن أن تخدم هذه الثورة الإنسانية جمعاء، لا أن تقودنا نحو مستقبل مجهول لا رجعة فيه.

المصدر: بلت إن