في صباح هادئ من خريف لندن، ظل “إيثان مورجان”، مدير استثمار صندوق متوسط الحجم، يشاهد شاشات السوق من مكتبه الزجاجي، ويتابع التحرك السريع للأرقام والأسهم التي تتقلب دون توقف.
وبينما كانت عينه تلاحق المؤشرات، ألقى نظرة سريعة على سهم شركة آبل، أحد أكبر استثمارات الصندوق، فوجده مستقرًا على غير المتوقع رغم إعلان نتائج مالية قوية.
في المقابل لاحظ “مورجان” أن سهم شركة “سوبر مايكرو كومبيوتر”، وهي شركة أصغر بكثير، قد سجل ارتفاعًا بنحو 15% خلال الوقت نفسه.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
هذا الموقف جعله يتساءل في داخله “من الذي يقود الربحية الآن؟ الشركات العملاقة أم الصغيرة؟” فقبل سنوات، كان الاستثمار في عمالقة مثل مايكروسوفت أو جونسون آند جونسون يعني الأمان والعوائد القوية للمستثمرين في الوقت نفسه.
لكن في الفترة الأخيرة، تمكنت العديد من الشركات الصغيرة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية مثل شركة أكسليس تكنولوجيز من لفت الأنظار وتحقيق نتائج استثمارية لافتة سواء على مستوى سعر السهم أو الأرباح الموزعة.
هذا الموقف جعل مورجان، الذي كان يثق دائمًا في “الأسهم الكبرى”، دفعه إلى إعادة النظر في قواعد استثمار الصندوق ليكون أكثر انفتاحًا نحو الاستثمار في تلك النوعية من الأسهم، متشجعًا بما تشهده عدة شركات صغيرة من تأقلم سريع وتحقيقها لمستويات من النمو القوي.
ليتبنى شعار “المسألة لم تعد تتعلق بحجم الشركة، بل بمرونتها وابتكارها”، ومع مرور الوقت، لمس مورجان نتائج هذه التحولات في الأداء العام للصندوق، الذي تفوق على مؤشرات السوق الرئيسية في ربعين متتاليين.
ولكن هل هذه النجاحات دليل قاطع على تفوق الأسهم الصغيرة؟ أم أنها مجرد موجة مؤقتة في سوق متقلب؟
الأسهم الكبرى مقابل الأسهم الصغيرة
تُعد المقارنة بين أداء الأسهم الكبرى والأسهم الصغيرة من أبرز المحاور في فهم ديناميكيات السوق، خاصة في فترات التقلب.
فالأسهم الكبرى تمثل شركات ذات قيمة سوقية ضخمة، غالبًا ما تتجاوز 10 مليارات دولار، وتتميّز هذه الشركات بالاستقرار النسبي، والسيولة العالية، والانتشار الواسع بين المستثمرين.
وغالبًا ما تكون هذه الشركات معروفة عالميًا مثل “بروكتر آند جامبل” و”ألفابيت”، وتُعتبر ملاذًا آمنًا نسبيًا في أوقات الاضطراب.
في المقابل، تُعرف الأسهم الصغيرة بأنها تلك الخاصة بالشركات ذات القيمة السوقية المنخفضة نسبيًا، وعادةً تكون قيمتها أقل من 2 مليار دولار.
وعلى الرغم من ارتفاع مخاطرها وتقلباتها، إلا أنها تُقدّم إمكانيات نمو كبيرة، خصوصًا في القطاعات الناشئة مثل التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، حيث تكون بعض الشركات في بداياتها قادرة على تحقيق قفزات كبيرة في الأداء والقيمة السوقية.
وغالبًا ما تجذب الأسهم الصغيرة المستثمرين الباحثين عن فرص لتحقيق أرباح استثنائية، لا سيما عندما تنجح إحدى هذه الشركات في إطلاق منتج مبتكر أو الدخول في أسواق جديدة.
مقارنة عامة بين الأسهم الكبرى والصغيرة
|
||
عامل المقارنة
|
الأسهم الصغيرة
|
الأسهم الكبيرة
|
القيمة السوقية
|
أقل من 2 مليار دولار أمريكي
|
أكثر من 10 مليار دولار أمريكي
|
الاستقرار
|
منخفضة نسبياً
|
مرتفعة
|
الإمكانيات الربحية
|
مرتفعة ولكن مع مخاطرة أكبر
|
مستدامة ولكن أقل نموًا
|
التأثر بالأزمات
|
أكثر تأثرًا
|
أقل تأثرًا
|
الابتكار
|
غالبًا تقدم ابتكارات جديدة وجذرية
|
عادة في تحسين المنتجات القائمة
|
سهولة التمويل
|
محدودة
|
عالية
|
جاذبية المؤسسات الاستثمارية
|
منخفضة نسبياً
|
مرتفعة
|
ومن بين النماذج اللافتة في هذا السياق، شركات مثل رامبوس المختصة في حلول الذاكرة وأمن البيانات، و”سوبر مايكرو كومبيوتر” التي استفادت من ارتفاع الطلب على الخوادم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
لكن هذا النوع من الأسهم لا يخلو من التحديات؛ فالشركات الصغيرة تواجه صعوبات في الوصول إلى التمويل، وتعاني من ضعف النفوذ التفاوضي أمام الموردين، كما أن أداءها غالبًا ما يتأثر بشكل أكبر بتقلبات الاقتصاد الكلي، مثل ارتفاع أسعار الفائدة أو تقلبات أسعار الطاقة.
ففي عام 2024 كانت بيئة الاستثمار معقدة بعض الشيء، وسط تقلبات حادة نتيجة لمجموعة من العوامل مثل ارتفاع التضخم، وتغيّر السياسات النقدية، التوترات الجيوسياسية، واضطرابات سلاسل التوريد.
هذه الظروف أثرت بشكل متفاوت على أداء الأسهم، وجعل الفروقات بين أداء الشركات الكبيرة والصغيرة يصبح أكثر وضوحًا.
فعلى سبيل المثال، استطاع مؤشر ناسداك 100 في السوق الأمريكية، المدعوم بأسهم شركات تكنولوجية كبرى من بينها “مايكروسوفت” و”إنفيديا”، أن يسجل موجة صعود قوية تجاوزت 15% خلال عام 2024، مستفيدًا من الزخم في قطاع الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي.
في المقابل، واجه مؤشر راسل 2000 – الذي يُقيس أداء الأسهم الصغيرة – أداءً أضعف، بل ومرّ بفترات من التراجع.
وجاء هذا الأداء نتيجة ارتفاع تكاليف الاقتراض التي أثّرت بشكل مباشر على الشركات الصغيرة الأقل قدرة على التمويل، إضافة إلى ضعف الطلب الاستهلاكي في بعض القطاعات التي تعتمد على الأسواق المحلية أكثر من العالمية.
هذا التباين في الأداء أعاد النقاش حول استراتيجيات الاستثمار الأفضل في فترات عدم الاستقرار، وهل الأفضل الاستمرار في الاعتماد على استقرار الشركات الكبرى، أم خوض مغامرة مدروسة في الشركات الصغيرة التي قد تحمل إمكانيات نمو أعلى؟
عوامل تحدد من يقود الربحية
في بيئة استثمارية مشحونة بالتقلبات، تتباين قدرة الشركات على تحقيق الربحية اعتمادًا على عوامل متعددة تتجاوز مجرد الحجم، من أبرزها المرونة في مواجهة الأزمات، والابتكار، وسلوك المستثمرين.
أولًا: المرونة في مواجهة عدم اليقين
تتمتع الشركات الكبرى بقدرة أعلى على الصمود في وجه الصدمات الاقتصادية بفضل مراكزها المالية القوية.
على سبيل المثال، أعلنت مايكروسوفت في أبريل 2024 عن أرباح فاقت التوقعات بفضل قطاع الحوسبة السحابية، وهو ما دفع سهمها للارتفاع بنحو 7.5% خلال أسبوعين فقط رغم الأجواء العامة المضطربة في السوق.
على الجانب الآخر، أظهرت بعض الشركات الصغيرة قدرة على التعافي السريع رغم التقلبات، مثل سهم سيرينس، وهي شركة برمجيات صوتية موجهة لقطاع السيارات.
وانخفض سهم الشركة إلى نحو 8 دولارات في ديسمبر من العام الماضي بسبب تباطؤ مبيعات السيارات، قبل أن يعاود الارتفاع إلى 19 دولارًا بنهاية الشهر نفسه منتعشًا بنحو 100% بعد إعلان سيرينس عن أنباء إيجابية عن عقد صفقات جديدة.
ثانيًا: الابتكار كمحرك للربحية
الابتكار يمنح الشركات ميزة تنافسية، لا سيما في القطاعات التقنية، فقد صعد سهم إنفيديا بنحو 21% بنهاية مايو 2024 بعد إعلانها عن رقائق ذكاء اصطناعي جديدة موجهة لمراكز البيانات.
لكن الابتكار ليس حكرًا على الكبار؛ فعلى سبيل المثال، شهد سهم شركة مونتوك رينيوابلز، المتخصصة في الطاقة المتجددة، ارتفاعًا ملحوظًا بنسبة تقارب 49% خلال مايو 2024، ويُعزى هذا الصعود إلى عوامل متعددة، على رأسها تحسن الأداء المالي للشركة.
ثالثًا: سلوك المستثمرين وتدفقات الأموال
المؤسسات الكبرى تميل للاستثمار في الأسهم الكبيرة التي توفر استقرارًا وربحية مستدامة.
على سبيل المثال، زادت صناديق مؤسساتية من استثماراتها في جونسون آند جونسون خلال تقلبات الربع الأول، ما ساعد السهم على الثبات في نطاق 146–153 دولارًا رغم الضغط على أسهم الرعاية الصحية الأخرى.
في المقابل، ينجذب المستثمرون الأفراد إلى الأسهم الصغيرة سعيًا وراء أرباح سريعة.
فعلى سبيل المثال، ارتفع سهم بيكسل ووركس وهي شركة أميركية متخصصة في تطوير معالجات الفيديو وتقنيات تحسين جودة العرض، بنحو 34% في غضون 5 أيام فقط في مايو 2024.
وجاء هذا الارتفاع بعد إعلان الشركة عن تطوير وحدة معالجة رسومية جديدة مخصصة للهواتف الذكية، رغم أن الشركة سجلت حينها خسائر فصلية.
تُظهر هذه الحالات الواقعية أن الربحية اليوم لا تعتمد فقط على الحجم، بل تتأثر بقدرة الأسهم على الابتكار، وسرعة التكيف، ومدى جاذبيتها المستثمرين.
وفي الأسواق المتقلبة، قد تتصدر الشركات الكبرى مشهد الربحية في فترات الاستقرار، لكن الشركات الصغيرة أيضًا قادرة على اقتناص الفرص متى ما تغيرت قواعد اللعبة.
الإجابة ليست واحدة
تعتمد قيادة الربحية في الأسواق على المرحلة الاقتصادية، والقطاع المستثمر به، والسياق الجيوسياسي، ففي الأوقات المضطربة، قد تهيمن الشركات الكبرى بسبب استقرارها وقوتها المالية.
لكن في الفترات الانتقالية أو عند انبثاق قطاعات جديدة، قد تكون الأسهم الصغيرة هي القائدة الحقيقية للربحية بفضل نموها السريع.
لذلك، لا يمكن تقديم إجابة حاسمة، بل يتطلب النجاح الاستثماري مزيجًا ذكيًا من كلتا الفئتين، مع مرونة في التوقيت، وفهم دقيق للمخاطر.
في عالم تتغيّر فيه قواعد اللعبة باستمرار، لا يمكن للمستثمرين الاعتماد على نمط واحد أو استراتيجية جامدة.
فالتحولات السريعة في التكنولوجيا، والاضطرابات الاقتصادية، وتقلبات الأسواق غير المتوقعة، كلها عوامل تتطلب يقظة دائمة وتحديثًا مستمرًا للرؤية الاستثمارية.
ربما لا تكون المسألة “من يقود الربحية؟” بقدر ما هي “كيف نستثمر بذكاء في من يقود الربحية الآن؟”، وما بين أسهم الشركات الكبرى التي تتمتع بالاستقرار، وأسهم الشركات الصغيرة التي تتسم بالطموح، تبقى فرصة الربح في متناول من يُحسن قراءة المشهد بذكاء.
المصادر: أرقام- بلومبيرج- فايننشال تايمز- مورنينجستار- بنك أوف أميركا – ناسداك دوت كوم- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- رويترز
(operate (d, s, id) {
var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0];
if (d.getElementById(id)) return;
js = d.createElement(s); js.id = id; js.async = true;
js.src = “//join.fb.web/en-US/sdk.js#xfbml=1#xfbml=1&appId=1581064458982007&model=v2.3”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);
}(doc, ‘script’, ‘facebook-jssdk’));