في زمنٍ تتزايد فيه أعداد كبار السن وتتقلص فيه فُرص تأمين الدعم المالي المستدام، تبرز سياسات التقاعد كأحد أعمدة الأمن الاجتماعي والاقتصادي في كل دولة.
ومع تقدم أعمار السكان حول العالم، تواجه الحكومات ضغوطًا متزايدة لتوفير أنظمة تقاعدية مستدامة وعادلة.
ويختلف بناء السياسات التقاعدية بشكل كبير بين الدول، وتتنوع ما بين معاشات تقاعدية وحوافز استثمارية ودعم عمليات الادخار بما يعكس نماذج اقتصادية متنوعة، وعقودًا اجتماعية مختلفة، وتحديات ديموغرافية متباينة.
وبينما تواجه بعض الدول تحديات في توفير نظام متكامل للتقاعد يضمن حياة كريمة لأولئك الذين أفنوا أعمارهم في العمل والعطاء، نجحت دول أخرى في تقديم نماذج متوازنة تمزج بين الكفاية المالية والاستدامة طويلة الأمد.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
نجاح تجارب هذه الدول يثير تساؤلًا حول امتلاكها لنموذج أمثل لرعاية مواطنيها في خريف العمر يصلح للتطبيق في مجتمعات أخرى، أم أن الأمر يختلف من دولة لأخرى بحسب مقومات كل منها وعلى رأسها طبيعة التركيبة السكنية لكل بلد.
ويستعرض هذا التقرير أبرز نماذج السياسات التقاعدية، مسلطًا الضوء على أمثلة وبيانات رقمية من عدة دول لتحديد الأنظمة التي توفر أفضل نتائج اقتصادية لكبار السن.
النموذج الاسكندنافي واستدامة التمويل
تُعد دول الشمال الأوروبي مثل السويد والنرويج والدنمارك وفنلندا من أبرز الدول التي طوّرت أنظمة تقاعدية متكاملة، تجمع بين عدالة التوزيع وكفاءة الإدارة واستدامة التمويل.
فالسويد مثلًا تعتمد نموذج “المساهمات المحددة الاسمية“، حيث تُربط قيمة المعاش بدخل الفرد خلال حياته ومتوسط العمر المتوقع، ما يعزز العدالة والارتباط بسوق العمل.
ورغم أن المعاش الحكومي يغطي نحو 55% من راتب الفرد قبل تقاعده، فإن هذا لا يعني بالضرورة انخفاض مستوى معيشته بعد التقاعد.
إذ ترتفع هذه النسبة مع الحصة المدفوعة من قبل أنظمة مهنية إلزامية يدفع فيها الموظف وربّ العمل مبالغ إضافية للتقاعد، وغالبًا ما تكون ضمن عقود العمل، مما يرفع إجمالي الدخل التقاعدي إلى قرابة 80% من الراتب.
هذا النموذج التكاملي يعزز الأمان المالي للمتقاعد، ويضمن له استمرارية في نمط الحياة الذي اعتاده أثناء العمل.
أما النرويج فتمزج بين معاش أساسي لجميع المواطنين وتعويضات مرتبطة بالدخل، مع إتاحة الفرصة لكبار السن بالاستمرار في العمل دون خصم من المعاش، ما يشجع على المرونة والاستقلالية.
في حين توفر الدنمارك نموذجًا شاملًا يجمع بين معاش اجتماعي عام لجميع كبار السن وأنظمة مهنية قوية تغطي أكثر من 90% من العاملين، وتُموّل من الضرائب ومساهمات أصحاب العمل.
نجاح هذه الدول يعزى إلى معدلات الثقة العالية بالمؤسسات الحكومية، وارتفاع نسبة المشاركة في سوق العمل، وسياسات ضريبية تُعيد توزيع الثروة بكفاءة.
إرث بسماركي وتحديات الشيخوخة
تعتمد ألمانيا على نظام تقاعد يُموَّل من خلال مساهمات العاملين، وهو نظام “بسماركي” تقليدي يعتمد على التمويل من مساهمات العاملين، لكن هذا النظام يواجه ضغوطًا متزايدة بسبب شيخوخة السكان وتراجع عدد الشباب العاملين.
ونتيجة لذلك، فإن المعاش التقاعدي الحكومي لا يغطي سوى نحو 48% من آخر راتب يحصل عليه المتقاعد.
ولهذا، تشجع الحكومة الألمانية المواطنين على تعزيز دخلهم التقاعدي من خلال ادخار خاص، مثل برنامج “ريستر”، وهو نظام ادخار تقاعدي خاص أطلقته برلين في عام 2002 لتشجيع المواطنين على الادخار لتقاعدهم إلى جانب المعاش الحكومي.
كما أنها تخطط لرفع سن التقاعد تدريجيًا إلى 67 عامًا بحلول 2031، لضمان استمرارية النظام في ظل هذه التحديات.
الدول التي لديها أفضل أنظمة تقاعد، وفقًا لمؤشر “ميرسر للمعاشات التقاعدية” لعام 2024 (مقارنة بين 48 دولة):
|
||
الترتيب
|
الدولة
|
القيمة الإجمالية
|
1
|
هولندا
|
84.8
|
2
|
أيسلندا
|
83.4
|
3
|
الدنمارك
|
81.6
|
4
|
سنغافورة
|
78.7
|
5
|
فنلندا
|
75.9
|
6
|
النرويج
|
75.2
|
من ناحية أخرى تعتمد فرنسا نظامًا متعدد الدعائم يجمع بين المعاشات العامة والخاصة، لكنها تواجه ضغوطًا حادة لإصلاح النظام في ظل ازدياد نسبة كبار السن، حيث يُتوقع أن تبلغ نسبتهم 29% من السكان بحلول عام 2070.
ولتعزيز الاستدامة، تتجه هذه الدول نحو إصلاحات تركز على إطالة فترات الاشتراك، وتشجيع الادخار الإضافي، ورفع سن التقاعد.
الدول الأنجلوساكسونية.. الاعتماد على الفرد
تتسم أنظمة التقاعد في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا بتركيزها على المسؤولية الفردية في الادخار، مع تدخل حكومي محدود لتوفير شبكة أمان أساسية.
ففي الولايات المتحدة، يمثل الضمان الاجتماعي المصدر الرئيسي للدخل التقاعدي لنحو 40% من المتقاعدين، فيما تعتمد النسبة المتبقية على خطط ادخار، ورغم ذلك يفتقر 40% من البالغين إلى أي مدخرات تقاعدية، وهو ما يعكس فجوة كبيرة في التغطية.
أما المملكة المتحدة فتمنح معاشًا حكوميًا ثابتًا، وتلزم الشركات بتسجيل الموظفين تلقائيًا في خطط ادخار خاصة، مما يرفع نسبة التغطية إلى نحو 90% من إجمالي الموظفين، لكن معدل الإحلال أي ما يحصل عليه المتقاعدون كنسبة من دخلهم السابق لا يزال منخفضًا نسبيًا.
ويشير هذا الأمر إلى أن التغطية جيدة من حيث الانتشار، لكنها غير كافية لتأمين مستوى معيشة مرتفع بعد التقاعد.
كما تقدم أستراليا نموذجًا متوازنًا عبر نظام تقاعد يُسمى “سوبر أنويشين”، وهو نظام ادخار إجباري للتقاعد، وبموجب هذا النظام، يجب على أصحاب العمل أن يدفعوا 11% من راتب الموظف إلى صندوق تقاعد خاص بالموظف.
هذا النظام لا يعتمد فقط على الحكومة، بل يشجّع الأفراد على الادخار الشخصي عبر العمل، ويُعتبر من أكثر الأنظمة فعالية وكفاءة بين الدول التي تتبع النموذج الأنجلوساكسوني.
ورغم مرونة هذه النماذج، فإنها تثير مخاوف من زيادة التفاوت الاجتماعي، خاصةً لدى الفئات ذات الدخول المنخفضة أو غير المنتظمة.
الدول الناشئة.. سباق مع الزمن
تعاني اقتصادات ناشئة مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا من ضعف البنية التحتية لأنظمة التقاعد، في وقت تتسارع فيه معدلات الشيخوخة.
ففي الصين، يعتمد النظام على تقسيم حضري-ريفي؛ حيث يحصل سكان المدن على معاشات تصل إلى 35% من دخلهم السابق، فيما يعاني الريف من تغطية منخفضة جدًا، وتسعى الحكومة حاليًا لدمج النظامين وتحسين الكفاءة الإدارية.
أما الهند فتعتمد على دعم غير رسمي واسع النطاق، بينما لا يغطي نظام التقاعد الوطني سوى شريحة صغيرة من السكان.
وفي البرازيل، يغطي النظام نحو 80% من كبار السن ويقدم معدل إحلال مرتفع يصل إلى 70%، لكن لا تزال تواجه الدولة ضغوطًا تتعلق بالعجز المالي.
وتظهر هذه النماذج أن الدول الناشئة تخوض سباقًا مع الزمن لإصلاح أنظمتها التقاعدية قبل أن تتفاقم التحديات الديموغرافية والمالية.
فضعف التغطية الرسمية واتكال شريحة واسعة من السكان على الدعم الأسري أو غير الرسمي يعرض الملايين لخطر الفقر في سن الشيخوخة.
في حين تؤدي الفجوات بين المناطق الحضرية والريفية، وبين العاملين في القطاع الرسمي وغير الرسمي، إلى تفاوتات حادة في الأمان المالي بعد التقاعد.
ولمواجهة ذلك، تتجه بعض هذه الدول إلى إدماج الأنظمة، وتوسيع الشمول المالي، وتقديم حوافز للادخار الشخصي، وتحسين كفاءة إدارة الصناديق العامة، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً لتحقيق نظام تقاعدي عادل ومستدام يلبي احتياجات كل المواطنين على اختلاف فئاتهم.
نماذج رائدة عالميًا
وفقًا لمؤشر “ميرسر العالمي للمعاشات”، تتصدر دول مثل هولندا والدنمارك وآيسلندا التصنيفات، بفضل أنظمة متكاملة توازن بين الكفاءة والاستدامة حيث تعتمد هولندا على نظام ثلاثي الدعائم.
ويشمل هذا النظام معاش حكومي أساسي، ومعاشات مهنية إلزامية ممولة بالكامل، وخطط ادخار فردي، ويغطي نحو 90% من السكان ويحقق معدل إحلال مرتفع.
في حين تجمع الدنمارك بين معاش شامل من الضرائب العامة ونظام مهني قوي يحقق كفاءة في التوزيع ومرونة في التقاعد.
من جانبها تقدم آيسلندا واحدًا من أكثر أنظمة التقاعد سخاءً واستدامة، بفضل معدلات مساهمة مرتفعة وتوزيع عادل للمخاطر.
في المقابل تقدم سنغافورة نموذجًا فريدًا عبر صندوق ادخار مركزي يغطي التقاعد والرعاية الصحية والسكن، ويقوم على مساهمات مشتركة من الموظف وصاحب العمل.
النموذج الأمثل؟
تؤكد التجارب العالمية أنه لا يوجد نموذج واحد يناسب الجميع، بل تتحدد كفاءة أنظمة التقاعد بناءً على السياق المحلي لكل دولة بما يراعي التركيبة السكانية، ومستوى التنمية الاقتصادية، وثقافة الادخار والثقة في الدولة.
تُعد الدول الاسكندنافية أبرز من يقدم نماذج مرنة وعادلة بفضل البنية الاجتماعية والضريبية المتماسكة، فيما تنجح الأنظمة الأنجلوساكسونية في تشجيع الادخار، لكنها تحتاج لضمان عدالة أكبر للفئات الضعيفة.
على جانب أخر تواجه الدول الناشئة تحدٍ مزدوج وهو توسيع التغطية وتحقيق الاستدامة قبل أن يفوت الأوان.
في النهاية، يتطلب بناء نظام تقاعدي ناجح مزيجًا من العدالة والكفاءة والاستدامة، بحيث يوفّر الأمان المالي لكبار السن دون تحميل الأجيال القادمة أعباء لا تحتمل.
ويعتمد ذلك على رؤية طويلة المدى، وسياسات مرنة تتكيف مع التغيرات السكانية والاقتصادية، إلى جانب إشراك المواطن في تحمل المسؤولية عبر ثقافة ادخار مبنية على الثقة والشفافية.
فليس هناك نظام مثالي يجب أن تحتذي به الدول الأخرى، بل هناك نظام ينبع من الواقع المحلي ويعكس أولويات المجتمع، ويُدار بكفاءة تؤمن للمتقاعد حياة كريمة، ويحافظ على توازن الاقتصاد الوطني.
المصادر: أرقام- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- البنك الدولي- الجمعية الدولية للضمان الاجتماعي- يوروسات- وزارة الخزانة الأسترالية- إدارة الضمان الاجتماعي الأمريكية- وكالة التقاعد السويدية- إنفستوبيديا- لوموند
(perform (d, s, id) {
var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0];
if (d.getElementById(id)) return;
js = d.createElement(s); js.id = id; js.async = true;
js.src = “//join.fb.web/en-US/sdk.js#xfbml=1#xfbml=1&appId=1581064458982007&model=v2.3”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);
}(doc, ‘script’, ‘facebook-jssdk’));